التصوف في مؤلّفات المقري، الجزء الثّاني
التّصوّف في نفح الطّيب[1]
ألّف المقّريّ موسوعة الشّهيرة "نفح الطّيب من غصن الأندلس
الرّطيب" بناء على طلب ابن شاهين المذكور سابقاً، وهو ذو طابع تاريخيّ أدبيّ،
لا غنى لدارس تاريخ الأندلس عنه، وقد اعتمد فيه المؤلّف على طائفة من المصادر ذات
الصّلة، كما خصّص حيّزاً كبيراً منه للتّعريف بذي الوزارتين، لسان الدّين ابن
الخطيب، هذا الأخير الذي أعجب به المقّريّ، ونسج على منوال أسلوبه، وفي مقدّمته
الطّويلة للكتاب، نشتمّ رائحة الخطاب الصّوفيّ، في قوله: «وما القصد إلّا ترويح
قلوب الذين يسوقون عيس الأسمار ويُزجون، وفيما أوردت من المواعظ والنّصائح،
وحكايات الأولياء الذين طيب زهر مناقبهم فائح»[2]
أمّا بخصوص تراجم الرّجال، فإنّ المقّريّ كثيرا ما يشير إلى الصّوفيّة منهم
بعبارة (وليّ الله، العارف به)، كما أنّه يروي لهم بعض الكرامات رواية المصدّق
لها، ونحن هنا لا نتّهم المقّريّ بالمغالاة في التّصوّف، لأنّه بعيد عنه كلّ
البعد، بل نعجب كيف له أن يذكر تلك الكرامات، ويقوم بالدّعاء عند القبور، وهو
المؤرّخ الأديب الأشعريّ، ذي النّظر الثّاقب، يقول مثلاً في ترجمة أبي العبّاس
المرسيّ: « ومنهم ولي
الله العارف به الشيخ الشهير الكرامات، الكبير [المقامات]، سيدي أبو
العباس المرسي، نفعنا الله تعالى به
وهو من أكابر الأولياء ... وقبره بالإسكندرية مشهور بإجابة الدعوات، وقد زرته
مراراً كثيرة، ودعوت الله عنده بما أرجو قبوله»[3]
ولا يختلف الأمر كثيرا في غير ذلك من المواضع على مدار الأجزاء السّبعة من
(نفح الطّيب)، وليس بوسعنا الإلمام بذلك كلّه، غير أنّه يؤكّد تأثّر المؤلّف
بالأولياء والصّالحين، انطلاقاً من تأثّره ببضاعة العصر، من ذلك قوله عن عمّه أبي
سعيد المقّريّ: «وتتصل
روايتي عن الإمام أبي حيّان من طرق عديدة: منها عن عمي، وليّ
الله العارف به، شيخ الإسلام، مفتي الأنام، الخطيب الإمام، ملحق الأحفاد
بالأجداد سيدي سعيد بن أحمد المقّري التّلمساني»[4].
ومن ذلك ترجمته ليوسف الدّمشقيّ[5]
: « ومنهم الولي
الصالح العارف بالله سيدي يوسف الدّمشقيّ، رضي الله تعالى عنه، وهو كما قال ابن داوود، من كبار الأولياء،
شاذليّ الطّريقة، قدم من المشرق إلى الأندلس ... وكان من الذين أخفاهم الله، لا يعرف به إلا من تعرف له، أعاد الله تعالى علينا من بركاته»[6]
.
كما نجد من نماذج الخطاب الصّوفيّ، ما ذكره المقّريّ بخصوص سؤال سئل فيه مجد
الدّين الفيروزآباديّ صاحب القاموس، عن الشّيخ محيي الدّين بن عربيّ[7]
الطّائيّ، فألّف في ذلك كتابه المسمّى ب(الاغتباط بمعالجة ابن الخيّاط)[8]،
وقد نقل عنه المقّريّ قوله: « إذا تغلغل فكر المرء في طرفٍ ... من بحره غرقت فيه خواطره وهو عباب لا
تكدره الدّلاء، وسحاب لا تتقاصر عنه الأنواء، وكانت دعواته تخترق السبع الطّباق،
وتفترق بركاته فتملأ الآفاق»[9]
.
حكايات الكرامات
حفل كتاب
نفح الطّيب للمقّريّ بنماذج مختلفة لبعض الكرامات التي يبدو أنّ المؤلّف ذكرها
كأدلّة على صدق ولاية المترجم له، وأنّه من أولياء الله، فقد ذكر في ترجمة أبي
الحسن عليّ بن أحمد الحرّاليّ الأندلسي[10]
: «ومن كراماته أنّه
أصاب الناس جدبٌ ببجاية، فأرسل إلى داره من يسوق ماء إلى الفقراء، فامتنعت كريمة
(جارية سيئة الطّبع)، ونهرت رسله، فسمع كلامها، فقال للرسول: قل لها يا كريمة،
والله لأشربنّ من ماء المطر الساعة، فرمق السماء بطرفه، ودعا الله سبحانه وتعالى،
ورفع يده به، وشرع المؤذن في الأذان، ولم يختم المؤذن أذانه حتى كان المطر كأفواه
القرب»[11]
ومن الكرامات المذكورة في نفح
الطّيب ما ذكره في ترجمة الطّرطوشيّ، التي نقلها عن الصّفديّ، وما يهمّنا هنا أنّ
المقّريّ قد أشار إلى أنّ ما سنذكره كاف لولاية الطّرطوشيّ، وهي حكاية من حكايات
الكرامات التي ينقلها المقّريّ مؤمناً بصحّتها، على الرّغم من تنوّع مصادره، وقد
نقل المقّري ما نصّه: «إن الأفضل ابن أمير الجيوش أنزله في مسجد شقيق الملك بالقرب
من الرصد، وكان يكرهه، فلمّا طال مقامه به ضجر، وقال لخادمه: إلى متى نصبر اجمع لي
المباح، فجمعه، وأكله ثلاثة أيام، فلمّا كان عند صلاة المغرب قال لخادمه، رميته
الساعة، فلمّا كان من الغد ركب الأفضل فقتل، وولي بعده المأمون بن البطائحي فأكرم
الشيخ إكراماً كثيراً، وله ألّف الشيخ سراج الملوك، انتهى. ومقامه - أعني الطرطوشي
- مشهور، وهذه الحكاية تكفي في ولايته»[12]
وقد نعجب من مبالغة المقّريّ (وهو
الفقيه المحدّث) في ذكر العديد من الكرامات التي نقلها دون تمحيص، بل وصدّقها
تصديقاً يثير الدّهشة، رغم أنّ طبائع البشر تتنافى مع بعض تلك الحكايات، ويمكن
التّمثيل لذلك بحكاية الطّرطوشي المذكورة، حيث أخبر بمقتل الأفضل قبل حدوث ذلك،
وبما ذكره أيضاً، في ترجمة أبي زكريا يحيى بن قاسم القرطبي[13]،
حيث ينقل ما نصّه: «وهو صاحب الشجرة، قال عباس بن
أصبغ: كانت في داره شجرة تسجد
لسجوده إذا سجد، قاله ابن
الفرضي، رحمه الله تعالى، ورضي عنه، ونفعنا به»[14]
ومن أمثلة ذلك ما ذكره المؤلّف
بخصوص الشّيخ محيى الدّين بن عربيّ، فقد نقل عن الشّعراني صاحب المؤلّفات
الصّوفيّة، شيئاً من أخباره من كتاب (الكبريت الأحمر في مناقب الشّيخ الأكبر)،
وختم ذلك بما يشير إلى تأييد كلّ كا جاء في كتاب الشّعرانيّ، وما نسب إلى ابن عربيّ
من كرامات: «وأمّا كراماته ومناقبه فلا تحصرها مجلّدات، وقول المنكرين في حقّ مثله غثاء وهباء لا يعبأ به، والحمد لله تعالى، انتهى
ما نقلته من كلام العارف بالله تعالى سيدي عبد الوهاب
الشعراني، رضي الله تعالى عنه، وقد حكى الشيخ رضي الله تعالى عنه، عن نفسه في كتبه ما
يبهر الألباب، وكفى بذلك دليلاً على ما منحه الله، الذي يفتح لمن شاء الباب»[15]
.
كما ذكر المقّريّ حكاية أخرى من
حكايات ابن عربيّ، فقد دخل هذا الأخير بجاية في رمضان سنة 597ه، ولقي بها أبا عبد
الله العربيّ وجماعة من الأفاضل، ولمّا دخلها قال: «رأيت ليلة أنّي نكحت نجوم
السماء كلّها، فما بقي منها نجم إلاّ نكحته بلذّة عظيمة روحانيةّ، ثمّ لمّا كملت
نكاح النجوم أعطيت الحروف فنكّحتها، ثمّ عرضت رؤياي هذه على من قصّها على رجل عارف
بالرؤيا بصير بها، وقلت للّذي عرضتها عليه: لا تذكرني، فلمّا ذكر الرؤيا استعظمها
وقال: هذا هو البحر الذي لا يدرك قعره، صاحب هذه الرؤيا يفتح الله تعالى له من
العلوم العلويّة وعلوم الأسرار وخواص الكواكب ما لا يكون فيه أحد من أهل زمانه، ثم
سكت ساعة، وقال: إن كان صاحب هذه الرؤيا في هذه المدينة فهو ذاك الشاب الأندلسي
الذي وصل إليها»[16]
وممّا يلفت
الانتباه في (نفح الطّيب) وفي مواضع أخرى من مؤلّفات المقّريّ حديثه عن زيارته
لقبور الأولياء، مغرباً ومشرقاً، للتّبرّك والدّعاء، فضلاً عن زيارته لقبر النّبيّ
– صلّى الله عليه وسلّم – حيث وفد على المدينة سبع مرّات، كما زار مقام إبراهيم
عليه السّلام ومن معه من الأنبياء بفلسطين، ففي ترجمته لابن عربي المذكور أشار إلى
زيارة قبره بدمشق، ولا ريب أنّ تلك الزّيارات كانت متكرّرة بدليل قوله: «وقد زرت قبره وتبركت به مراراً، ورأيت لوائح الأنوار عليه ظاهرة، ولا يجد
منصف محيداً إلى إنكار ما يشاهد عند قبره من الأحوال الباهرة، وكانت زيارتي له
بشعبان ورمضان وأول شوال سنة 1037»[17]
كما كان
يزور، قبل ذهابه إلى المشرق، قبور الأولياء بالمدن المغربيّة خاصّة بفاس ومراكش،
فقد ذكر أنّه زار قبر الإمام القاضي أبي بكر بن العربيّ صاحب "أحكام القرآن"، وهو يصف ذلك بقوله: «وقد زرته مراراً، وقبره هنالك مقصود للزيارة خارج القصبة»[18]
ختاماً،
فإنّ حياة "أبي العبّاس المقّري" كانت مليئة بالتّقلّبات الاجتماعيّة،
نتيجة الأوضاع المتردّية، التي أدّت به - في نهاية المطاف - إلى مغادرة بلاد
المغرب، ورغم ذلك فإنّ هذا ليس من أسباب الإغراق في ذكر حكايات التّصوّف
والكرامات، التي حفل بها كتابه الشّهير (نفح الطّيب من غصن الأندلس الرّطيب)، فقد
ضمّنه صاحبه العديد من النّماذج على الكرامات التي لا يقبلها العقل السّليم، والتي
تصدر عادة عن دعاة التّصوّف والجذب لا من شخصيّة مرموقة كصاحبنا، التي كان ينقل عن
غيره تلك الحكايات نقلاً حرفيًّا ينمّ عن تصديق وتسليم، وما الحكايات المذكورة
إلّا عيّنة من كثير غيرها.
الهوامش والإحالات
[5] - يوسف الدّمشقيّ
الأندلسيّ، كان يأتي مدينة وادي آش الكرة بعد الكرة لزيارة معارف
له بها، ترجمته في النّبهانيّ، جامع كرامات الأولياء، 2/443.
[7] - محمّد بن عليّ بن محمّد
بن عربيّ الحاتميّ الطّائيّ الأندلسيّ، الشّهير بمحي الدّين بن عربيّ، لقّبه أتباع
بالشّيخ الأكبر، ولد في مرسية عام 558ه / 1164م، قبل عامين من وفاة عبد القادر
الجيلانيّ، وتوفّي في دمشق عام 638ه / 1240م، ودفن في سفح جبل قاسيون، عالم
روحانيّ وفيلسوف، وشاعر، من ألقابه: رئيس المكاشفين، البحر الزّاخر، بحر الحقائق،
إمام المحقّقين، من مؤلّفاته: الوصايا – الرّسائل – ترجمان الأشواق (شعر) – شجرة
الكون – ماهية القلب ... (ترجمته في: التّكملة لكتاب الصّلة، 2/145 – شذرات
الذّهب، 5/190 – طبقات الأولياء، ص: 2 - تاريخ الجبرتي، 1/368.
[8] - طبع ضمن مجموع
رسائل في الدّفاع عن ابن عربيّ، بعنوان: النّور الأأبهر في الدّفاع عن الشّيخ
الأكبر، تح: أحمد فريد المزيدي الأزهريّ، دار الذّكر للنّشر والتّوزيع، القاهرة،
ط1، 2007.
[10] - الحرّالي
التّجيبيّ (ت: 638هـ / 1241م): وصفه الغبريني بالشّيخ الفقيه، العالم المطلق،
الزّاهد الورع، بقيّة السّلف، وقدوة الخلف، نسيج وحده، كان بدء أمره بمراكش، ثمّ
تخلّى عن الدّنيا ورحل إلى المشرق، وكان ذلك بعد أن حصل من العلم ما سبق به أبناء
وقته، ثمّ قذف قلبه من نور الله تعالى، ما اقتضى إخلاص العمل لآخرته. (ترجمته في
عنوان الدّراية، ص: 143 – ترجمة رقم 31 – نفح الطّيب، 2/187 – ترجمة رقم 115 –
شذرات الذّهب، 5/189)
[13] - يحيى بن قاسم بن
هلال القرطبيّ (ت:: 278 أو 282هـ): رحل إلى المشرق، وسمع من عبد الله بن نافع صاحب
مالك بن أنس، ومن سحنون بن سعيد، وغيرهما، (ترجمته في جذوة المقتبس، 355 – بغية الملتمس، رقم 1487 - ابن الفرضيّ، 2/180)

تعليقات
إرسال تعليق