أشعار جزائرية للفقيه الشّاعر ابن عمّار الجزائريّ - أقسامها ومضمونها -
مقدّمة:
تحتوى المختارات الشّعريّة على أشعار ابن عمّار وابن علي
والقوجيليّ والمانجلّاتيّ وابن راس العين والشّبّاح، والمناسبات التي قيلت فيها كل
قصيدة، مع ملاحظة أن أغراضها متنوعة تنوع تلك المناسبات، كما أن هناك من ذكرت له
عدة قصائد بينما غيره لم تذكر له سوى قصيدة واحدة أو اثنتان، وذلك تبعا لشهرة هذا
الشاعر أو خموله، ومع ذلك فإن ما ذكر في هذا المجموع ليس كاملا، بدليل أن ابن علي
قد اختار في كشكوله، ما اعتبره أجود شعر تلك الفترة (القرنان الحادي عشر والثاني
عشر)، إضافة إلى أن ابن عمار الذي تسلم هذا الكشكول قد تصرف فيه هو الآخر، فحذف ما
حذف، وأبقى على ما رآه مناسبا للنشر، وهذا الانتقاء المزدوج قد ضيع وصول العديد من
النماذج الشعرية في الفترة المذكورة.
أقسامها:
وإذا نظرنا إلى
المختارات التي بين أيدينا، وجدنا أنها مقسمة إلى ثلاثة أقسام، ذكرها المحقق، وهي
كالتالي:
القسم الأول: مساجلات ابن علي وابن
عمار.
القسم الثاني: غراميات ابن علي.
القسم الثالث: ما جمعه ابن علي في
ديوانه من شعر غيره.
القسم
الأول: مساجلات ابن علي وابن عمار.
وأغلب الظن أن هذا القسم جزء من كتاب ابن عمار المفقود
"لواء النصر في فضلاء العصر"، الذي طالما أشار إليه في رحلته، ذلك أنه
يضم وصفا لنزهة في بساتين الجزائر سنة 1163، والذي يبدأ بقوله: « وَتَنَزَّهْنَا
مَرَّةً بِبَعْضِ بَسَاتِينِ مَحْرُوسَةِ بَلَدِنَا الْجَزَائِرِ، التِي هِيَ
رَيْحَانَةُ الْقَاطِنِ وَسِلْوَانَةُ الزَّائِرِ، فِي حُدُودِ سَنَةِ الثَّلَاثِ
وَالسِّتِّينَ بَعْدَ الْمَائَةِ وَالْأَلْفِ، وَقَطَفْنَا بِهِ زَهْرَاتِ
الْأُنْسِ أَيَّمَا قَطْفٍ. وَكَانَ قُطْبَ رَحَى سُرُورِنَا الذِي عَلَيْهِ الْمَدَارُ،
وَمِغْنَاطِيسُ حُبُورِنَا الذِي لَا يَأْتِي الدَّهْرُ بِمِثْلِهِ وَلَا تُسَاعِدُ
بِهِ الْأَقْدَارُ،شَيْخُنَا الْأَدِيبُ البارع، الناهل من حياض السؤدد والكارع،
الذي تقلدت بعلومه كاعب الدنيا وتحلت، وألقت إليه أرض الآداب ما فيها وتخلت، أبا
عبد الله محمد بن محمد الشهير بابن عليفَمَضَتْ لَنَا أَيَّامُ أُنْسٍ مَا مَضَتْ
لِلنُّعْمَانِ بِالشَّقِيقَةِ، وَلَا قَضَتْهَا مُلُوكُ غَسَّانَ بِرَوْضَاتِ
شَامِهِمُ الْأَنِيقَةِ، وَلَا نَادَمَ حَسَّانُ مِثْلَهَا عِصَابَتَهُ بِجَلَقٍ،
وَلَا جَالَ فِي وَصْفِ شَبَهِهَا لِسَانُهُ الْمُتَذَلِّقُ، وَلَا مَرَّتْ
لِأَهْلِ الْعِرَاقِ بِالرُّصَافَةِ
وَالدِّجْلَةِ، وَلَا أَجْرَى ابْنُ عَبَّادَ بِنَهْرِ إِشْبِيلِيَةَ
لِلَّهْوِ خَيْلَهُ وَرِجْلَه»[1].
كما لا يستبعد أن يكون جزءا من ديوان ابن علي الذي تسلمه
ابن عمار، ثم بعد ذلك ضمنه كتابه المفقود، وكلا الاحتمالين لا ينفي الآخر، لكن
المؤكد أن هذا القسم يعبر بحق عن تمكن ابن علي من ناصية الشعر، أليس هو القائل، في
وصف النزهة المذكورة:
قَسَمًا
بِرَيْحَانِ الْعَقِيقِ وَبَانِهِ
لَقَدِ انْقَضَى غَزَلِي عَلَى غِزْلَانِهِ
مِنْ
كُلِّ أَحْوَرَ بَابِلِيِّ الطَّرْفِ فَا
تِكِهِ بِأَرْبَابِ النُّهَى فَتَّانِهِ
فَاعْجَبْ
لِرَوْضَةِ خَدِّهِ مَا بَالُهَا
مُخْضَرَّةَ الْجَنَبَاتِ فِي نِيرَانِهِ
ذِي
صُورَةٍ قَدْ أَذْكَرَتْنِي عِنْدَمَا
أَلْفَاهُ، صُنْعَ اللهِ فِي إِتْقَانِهِ
مَا
زَارَنِي إِلَّا رَآنِي خَاضِعًا وَأرَاهُ كِسْرَى حَلَّ فِي إيوَانِهِ[2]
وقد رد عليه ابن عمار بمثلها وزنا وقافية، كما قدم لها
بمقدمة نثرية، وهما موجودتان في الرحلة دون المختارات، لكن المحقق ارتأى إدراجهما
لاتصالهما بالقصيدة السابقة، وقد جاء في المقدمة النثرية التي تثبت قوة ابن عمار
الأدبية ما يلي: «ولما راش سهامها لرمي هدف الفؤاد وبرى، وأجال نسيمها بروض السمع
فانسل للركض وانبرى، وأقطف الأذهان من أزهار رياضها، وأرشف الآذان من أنهارها
وحياضها، وأدار على الألباب أكوس علومها الفيثاغورية، وحثها بأصوات أغانيها
الماخورية، ذهب بي الارتياح كل مذهب، وسلك بي الطرب مسلكا لم يسلك من قبل ولم
يذهب، فلا تسل كم بت صريع حُمَيّاها، طريح طلعة محيّاها، فلم أفق إلا ومناديها
ينادي برد الجواب، وما أبعدني منه لو توخي الصواب، لكن لما لم يسعني إلا إسعافه،
بإملاء ما أستقذره وأعافه، كتبت إليه مجيبا، بما لا يعد في يوم الرهان نجيبا»[3].
أما القصيدة فهي
طويلة تبلغ ستا وتسعين بيتا نورد منها ما يلي:
أَنَسِيمَ
رَوْضٍ رَقَّ فِي سَرَيَانِهِ وَثَنَى الْقَضِيبَ فَرَاقَ فِي مَيَلَانِهِ
بَعَثَتْ
أَرَانِجُهُ السُّلُوَّ لِخَاطِرِي فَتَخَلَّصَ الْمَحْزُونُ مِنْ أَحْزَانِهِ
أَمْ
رَوْضَةٌ غَنَّاءُ رَاقَ رَوَاؤُهَا
خَلَعَ الرَّبِيعُ بِهَ حُلَى أَلْوَانِهِ
وَتَبَرَّجَتْ
كَالخودِ فِي مُوشِيَّةٍ مِنْ
وَرْدِهِ الْمَطْلُولِ مَعْ سُوسَانِهِ[4]
ويواصل الشاعران مساجلتهما على مدار القسم الأول، مرة
نثرا ومرة شعرا، مظهرَين براعتهما ومقدرتهما على النظم، إذ نجد ابن عمار يذكر أن
ابن علي قد أنشده قصيدة، لكنه لم يسق لنا نصها، وعلى كل فإنه قد رد عليها ببائية
من 24 بيتا، وقدم لها بمقدمة قصيرة قال فيها: «وأنشدني يوما من بدائعه وأطال
الإنشاد، وأملى علي فبنى للإحسان قصورا وشاد، فكتبت له مخاطبا، ولأبكار أفكاره
خاطبا»[5].
أما القصيدة
المذكورة بعدها فيقول في أولها:
يَا
بَارِعًا بَرَزَتْ سَوَابِقُ فِكْرِهِ
فِي حَلْبَةِ الشُّعَرَاءِ وَالْكُتَّابِ
صُغْتَ
الْمَعَانِي فِي انْتِظَامِكَ أَعْيُنًا
وَرَقَائِق الْأَلْفَاظِ كَالْأَهْدَابِ
أَبْرَزْتَهَا
مِنْ خِدْرِ فِكْرِكَ خُرَّدًا
تَخْتَالُ فِي حُلَلٍ مِنَ الْآدَابِ
مَا غَاضَ
ذِهْنُكَ فِي طِلابِ نَفِيسِهَا إِلَّا
وَءَاضَ بِفِتْنَةِ الْأَلْبَابِ[6]
ومن الواضح أن القصيدة
في مدح ابن علي، الذي حلاه صديقه بصفات تنم عن الإعجاب، خاصة ما تعلق بإعادة
الحياة للشعر العربي في الجزائر، وهذا ما نستشفه في ختام القصيدة:
قَدْ
كَانَ بَابُ النَّظْمِ قَبْلَكَ مُغْلَقًا
فَفَتَحْتَهُ يَا فَاتِحَ الْأَبْوَابِ
وَنَشَرْتَهُ
مِنْ بَعْدِ طَيِّ بِسَاطِهِ وَرَدَدْتَهُ مِنْ بَعْدِ طُولِ ذَهَابِ
فَاهْنَأْ
بِمَا خَوَّلْتَهُ مِنْ نِعْمَةٍ
وَافْخَرْ وَجُرَّ مَطَارِفَ الْإِعْجَابِ
وَإِلَيْكَهَا
تَخْتَالُ فِي ثَوْبِ الْحَيَا وَتَجُرُّ تِيهًا فِضْلَةَ الْجِلْبَابِ
وَاسْلَمْ
بِطُولِ الدَّهْرِ تُوضِحْ مُشْكِلًا
صَعْبًا وَتُحْيِي مَيِّتَ الْآدَابِ[7]
وكعادته، فإن المفتي ابن
عمار يشفع القصيدة بنص نثري يجاريها براعة، وكأني به يقول إنه بمقدوره أن يمدح
بالنثر كما يمدح بالشعر، وهو في ذلك محق، على الرغم من أنه لا يكاد يجاري صديقه
المفتي الحنفي ابن علي، هذا الأخير الذي تفوق في مجال الشعر على جميع شعراء القطر
في تلك الحقبة، بما فيهم ابن عمار، الذي لا ينكر ذلك، والدليل هو الأبيات السابقة،
إضافة إلى النماذج الذي ساقها ابن علي في كشكوله، ولهذا يمكن القول إن ابن عمار
ناثر أكثر منه شاعرا، بينما ابن علي شاعر أكثر منه ناثرا، وسنتجاوز هذا النص
اعتبارا من أنه وارد في الرحلة، وليس ضمن المختارات، لكننا نجد بعده مباشرة مقدمة
نثرية للقصيدة التي رد بها ابن علي على البائية المذكورة، والقصيدة على نفس الوزن
والقافية وعدد الأبيات. مطلعها:
وَبَدِيعَةٍ أَزْرَتْ بِدُرِّ
سِخَابِ وَبِحِلْيَةٍ صِيغَتْ بِدَرِّ
سَحَابِ
أما المقدمة فهي قول ابن عمار:«ولما استقرت
لديه، وتمثلت خاضعة بين يديه، خضوع الأمة بين يدي المولى، قابلها بالإحسان، ومن
سواه بذلك أولى، ولما هبت عليها من أفقه نسمات القبول، واهتز لها اهتزاز الغصن
بنسيم الصبا والقبول، وغشيتها من سماء نواله سحائب الجود والكرم، واستسمنها وإن
كانت ذات ورم، وأحلها أعزه الله محل القلب من الفؤاد، وكان لها كجار أبي دؤاد،
أجاب عنها قدس سره بما صير البال رهنا بيد الخيال والأفكار شاردى عن الأوكار»[8].
نلاحظ أن ابن عمار يجعل قصيدته السابقة والتي مطلعها (يَا بَارِعًا
بَرَزَتْ سَوَابِقُ فِكْرِهِ)، كأنها جارية مثلت بين يدي مولاها (يقصد الشاعر ابن
علي)، وهنا نلمح تواضعا منه، وتعظيما لشأن من قيلت فيه، لكن هذا المولى قد قابلها
بالإحسان والقبول والكرم، وأعطاها أكثر مما تستحق من الاهتمام، وكان لها نعم
الجار.
وهي كلها تشبيهات
تبرز مقدرة ابن عمار في مجال النثر، وتأثره بمن سبقه من أعلام المدرسة الأندلسية
كابن الخطيب والمقري وغيرهما، والقارئ للنبذة المنشورة من رحلته يجد الكثير من
النماذج على هذا المنوال، كما أن لابن علي – هو الآخر – نصيب من ذلك، وإن لم يبلغ
شأو صاحبه، فها هو ذا (ابن علي) يرد عليه منوها بقصيدته (قصيدة ابن عمار التي
مطلعها يَا بَارِعًا بَرَزَتْ سَوَابِقُ فِكْرِهِ) بعدما رد عليها (بمعنى أن ابن
علي سيرُدُّ على القصيدة المذكورة نثراً كما فعل شعراً). بقوله:
«أهلًا بتحفة القادم، وريحانة المنادم، وسلوانة المحزون
السادم، لقد طلعت علي طلوع النجاة على الغرق، والأمان على الفرق، وفاجأتني مفاجأة
الراحة والوسن بعد المرض الطائل والأرق، ناهيك من خريدة فضح رونقها الصباح، وفريدة
أذكرتني بمنادمتها منادمة مالك وعقيل جذيمة الوضاح،وبديعة طاولت في التهذيب
والإتقان مطول السعد وعروس الأفراح، فقد رتع النظر منها في روضة غناء تزخرفت
بأنواع الأزاهر، وتحلت من مطلول رياحينها بنفيس الجواهر ...»[9].
وعلى العموم فإن القصائد الموالية لا تخرج عن منوال
المساجلات بين الشاعرين المذكورين، مرة في المدح، ومرة في الوصف أو الغزل، ولعل
الطريف في الموضوع أن ابن علي كان يهوى امرأة تتأبى عليه، فمرض مرة فأرسَلَت إليه
بطعام شهي، وكان يرغب في وصف تلك الحالة، ولكنه لم يستطع فطلب من صديقه ابن عمار
أن ينوب عنه، والنص موجود في الرحلة، وقد ورد كما يلي: «واشتكى مرة وجع كبده فتغير
مزاجه، وصعب طبه وعلاجه، ونفر عن الطعام طبعه، ولان غرب ذوقه ونبعه، فأرسلت إليه
بهدية من نفائس المأكول علاج يديها تطرفه بذلك وتتحفه، وهي تضنيه بهجرها وتنحفه،
فَدَخَلْتُ عليه يوما أتعاهده وأعوده ... وأنشدني بيتين لم يعلقا بحفظي، ولم يخطرا
بعد ذلك المجلس بخاطري ولا لفظي، ثم قال لي نب عني في الإعراب عن القضية، واستعمل
في وصف الحال سيوف أفكارك المنضية، فشحذت صارم الفكر وجردته، ثم رويت وأنشدته»[10].
أما القصيدة فمطلعها:
بِنَفْسِي
رُبَّمَا رَاشَ لِي اللَّحْظُ شَفْرَهَا
وَمَا غَيْر أَحْشَائِي لَدَى الرَّشْقِ مِن ترسِ
ولا يمكن دراسة هذا القسم دون الحديث عن قصيدة من أجود
قصائده، ونعني بها وصف ابن عمار لقصر عبد اللطيف، ولهذا المكان قصة معروفة لدى
سكان مدينة الجزائر، وهو موجود إلى الآن، وقد كان هذا القصر ملهما للعديد من
الفنانين والرسامين[11]،
و«فيلا عبد اللطيف تنسب، كما هو واضح من الإسم، إلى عائلة عبد اللطيف التي اشتهرت
في القرن الثامن عشر بالثروة والجاه والسياسة والأدب. وكان من هذه العائلة وزراء
وقضاة. وبناء على وصف ابن عمار فإن الفيلا (القصر) كانت غارقة في الإخضرار
الزمردي، وكانت آية في الجمال والرونق. وقد استقبلت ضيوفها من الأدباء والسياسيين
حيث قضوا سهرة من سهرات القصور البغدادية والأندلسية»[12].
وهذه القصيدة مؤلفة من ثمانية وثمانين بيتا، وتظهر فيها
براعة الوصف لدى الشاعر، حيث تقسم إلى مقدمة يصف فيها المجلس، والغرض المقصود وهو
مدح المضيف من عائلة عبد اللطيف، اسمه على ما يبدو من الأبيات هو محمد، بينما في
القطعة النثرية أحمد، وعلى العموم فهما أخوان، فقد كان الأول مفتيا والثاني وزير
أو كاتبا (عن المحقق)، وليس هذا فحسب، بل إن ابن عمار قدم لوصفه ذاك بقطعة نثرية
في حوالي صفحتين، نذكر منها مقتطفات لكونها من أجمل ما كتب، وهذا الوصف مع القصيدة
غير موجودين في الرحلة.
يقول ابن عمار: «ولما افتر ثغر الزمان بعد عبوسه باسما،
وانشقت من نشر بشره أرائج ونواسماً، وراض السعد منه ما صعب بعد جموحه، واقتاد
الجَد من إسعاده ما ند بعد ميله للضد وجنوحه، وكسر الدهر من حدته، ولان بعد شدته،
استدعانا الوزير الكاتب، المشتمل على بهجة الثريا وظرف الكاتب، الحائز من ذخائر المجد
التليد والطريف، المتبختر من رواق العز تحت ظله الوريف، مولانا أبو العباس أحمد بن
عبد اللطيف إلى صنيع ما اصطنعه كسرى أنو شروان[13]،
ولا افتخر بمثله سيف بن ذي يزن[14]
في رأس غمدان»[15]
ثم ينتقل إلى وصف المكان، وهو الفيلا أو القصر الذي
اجتمعوا فيه، يقول: «فاحتللنا قصراً، وما أدراك ما قصر، تقابل الواصف أوصافه
بالحبس والقصر، وتعبث محاسنه بالزهراء والزاهرة، وتشرف شرفاته على النجوم الزاهرة،
وتزهو بدائعه على الزاهي والدمشق، وتلهو مقصوراته بقصور العراق ودمشق، ما شئت من
انفساح عرصات، وارتفاع أرائك ومنصات، ودسوت كأنها البدور بهالاتها محفوفة، وزرابي
مبثوثة ونمارق مصفوفة، وفرش مرفوعة وأكواب موضوعة، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا
ممنوعة»[16].
ففي هذا الوصف بعض التشابيه، كالزهراء والزاهرة، وهما من
مدن الأندلس أيام عزها فالأولى بناها عبد الرحمن الناصر، أما الثانية فبناها
الحاجب المنصور أيام خلافة المستنصر، فالشاعر هنا بلوح إلى كون هذا القصر من
الاتساع والجمال بحيث يضاهي أو يفوق القصور المذكورة، بما فيها قصور الخلفاء،
بدليل ذكره للعراق ودمشق، فالأولى إشارة إلى ما شاده العباسيون، أما الثانية
فإشارة إلى قصور الأمويين قبلهم، أما الأوصاف التي جاءت بعد ذلك فهي تأكيد لما
ذكره الشاعر، ومن الواضح أنه يستقي بعض العبارات من القرآن الكريم.
وعلى العموم فإن ابن عمار يستمر في وصف تلك الليلة التي
قضاها العلماء والسياسيون في القصر المذكور، سنتجاوز بعضها لننتقل إلى آخر فقرة
فيها وهي قوله: «فناهيك من ليلة قطعناها بالمسامرة ما أقصرها بعمر وأطولها في
الفخر بباع، وناهيك من أنس أدرنا بها كؤوسه مثنى وثلاث ورباع، والسعد خديم،
والسرور نديم. ولما هصرت من الأماني غصونها واقتطفت من ثمارها قطافا، وانتشقت من
رياض التهاني نسمات أزهار خمائلها فأمالت مني أعطافاً، واشتملت على لبى من طلاوة
شمائلها هاتيك الشمول»[17].
بعد هذا الوصف
النثري ينتقل الشاعر إلى قصيدته التي يقول فيها:
وَلَيْلَةِ
أُنْسٍ لَذَّ فِيهَا السَّمَرْ فَنَاهِيكَ مِنْ أُنْسٍ جَنَيْنَاهُ
بِالسَّهَرْ
هَصَرْتُ
بِهَا غُصْنَ الْمَسَرَّةِ وَالْمُنَى وَجَرَّرْتُ أَذْيَالَ السَّعَادَةِ
والظَّفَرْ
وَفُزْتُ
بِمَنْ أَهْوَى عَلَى صَوْلَةِ النَّوَى فَنَزَّهْتُ فِيهِ الْقَلْبَ وَالسَّمْعَ
وَالْبَصَرْ
وَبِتُّ
وَلِلْبَدْرِ الْمُنِيرِ تَضَاؤُلٌ أُغَازِلُ مِنْهُ الْحَقْفَ وَالْغُصْنَ وَالْقَمَرْ
فَلَا
غُصْنَ إِلَّا مِنْ رَشِيقِ قِوَامِهِ وَلَا بَدْرَ إِلَّا مِنْ أَزِرَّتِهِ
ظَهَرْ[18]
وتبدو لغة القصيدة قوية معبرة، فيها العديد من التشبيهات
التي ألفها الأندلسيون في أشعارهم، وهو في ذلك متأثر بهم، بل من مدرستهم، كما
يذكرنا بالمقدمات التي كان العرب القدامى يستهلون بها قصائدهم، بالشوق والحنين إلى
كل ما يمت إلى الماضي بصلة، والفرق فقط في أن ابن عمار يصف ما رآه في ليلته تلك،
فها هو يقول:
فَيَا
لَيْلَةَ الْأَفْرَاحِ وَالْأُنْسِ طَوِّلِي
قَلِيلًا وَيَا لَيْلَ الْمَسَرَّةِ فَاعْتَكِرْ
وَيَا
صَبْحُ لَا تُسْفِرْ عَلَيْنَا فَإِنَّنَا
غَنَيْنَا بِأَسْفَارِ الْغَلَائِلِ
وَالْغُرَرْ
إِلَى
اللهِ أَشْكُو مَا جَنَتْ لَيْلَةُ اللِّقَا
عَلَى قَلْبِيَ الْمَشْغُوفِ مِنْ شِدَّةِ
الْقِصَرْ
إلى أن يقول:
شَرِبْنَا
عَلَى ضَوْئَيْنِ ثَغْرٍ وَغُرَّةٍ
وَجُنْحَيْنِ مِن لَيْلٍ مَمِن حلْكَةِ الشَّعْرِ
مُعَتَّقَةً
صَهْبَاءَ تُعْزَى لِرِيقِهِ
وَمَنْطِقِهِ لَا لِلدِّنَانِ وَلَا السكر[19]
يُدِيرُ
كُؤُوسًا مِنْ مُدَامَةِ لَفْظِهِ
وَيَسْعَى بِأُخْرَى مِنْ معتقة الْحُوَر
رَيَاحِينُنَا
صُدْغَاهُ وَالْوَرْدُ خَدُّهُ
وَمِنْ ثَغْرِهِ الْبَرَّاقِ نَقْتَطِفُ الزَّهَرْ[20]
وكما ذكرنا فإن
الشاعر يتخلص بعد هذا الوصف إلى مدح صاحب الدعوة، وآل عبد اللطيف على حفاوة
الاستقبال، وكرم الأخلاق، وما إلى ذلك من مستلزمات المدح:
كَمَا
بَهَرَتْ آدَابُ بَارِعِ عَصْرِنَا وَأَبْلَغُ مَنْ حَاكَ الْقَرِيضَ وَمَنْ
نَثَرْ
مُحَمَّدُنَا
رَاوِي حَدِيثِ مُحَمَّدٍ وَنَاظِمُ ذَاكَ الْعِقْدِ مِنْ بَعْدِ مَا
انْتَثَرْ
مُجَدِّدُ
دِينِ اللهِ بَعْدَ عَفَائِهِ وَنَاشِرُ رَسْمِ الْحَقِّ مِنْ بَعْدِ مَا
دثرْ
خَطِيبٌ
يَفُوقُ ابْنَ الْخَطِيبِ بَلَاغَةً وَيَحْتَبِسُ الْبَصْرِيَّ مِنْ وَعْظِهِ
الحصرْ
يَفُوقُ
نَثِيرَ الزَّهْرِ رَائِقُ نَثْرِهِ
وَيَعْبَثُ بِالشِّعْرَى العبُورِ إِذَا شَعَرْ[21]
وقبل أن ننتقل إلى القسم الثاني من المجموع، نشير إلى أن
مساجلات الشاعرين (ابن عمار وابن علي في القسم الأول)، تضمنت قصيدة لابن ميمون في
وصف معشوقة لابن علي، وهي القصيدة الوحيد له في المجموع ككل، والقصيدة مع مقدمة
ابن عمار لها موجودتان في الرحلة (ص64)، ورد ابن علي عليها (ص65)[22]، ومطلع
قصيدة ابن ميمون هو:
أَمِنْ
فَتْكِ ذَاتِ الْقُلْبِ لِلَقَلْبِ حَاجِبُ
وَسْهُمُهَا الْأَلْحَاظُ والْقَوْسُ حَاجِبُ[23]
بينما مطلع قصيدة
ابن علي الأولى:
أَسَهْمٌ
رَمَانِي مِنْ لِحَاظِكَ صَائِبُ فَجدت
إِلَى قَلْبِي تَحُثُّ الْمَصَائِبُ[24]
والثانية:
يَمِينًا
لَقَدْ عَزَّتْ عَلَيَّ الْمَطَالِبُ
وَلِي أَبَدًا مِنْ سِحْرِ عَيْنَيْكَ طَالِبُ[25]
القسم
الثاني: غراميات ابن علي.
في هذا القسم نجد مجموعة من القصائد الغزلية من إنشاء
ابن علي فقط، وقد نقلها ابن عمار بعدما تناول الديوان، لكن هل هذا الديوان يضم
قصائد أخرى غير التي ذكرت؟، فيكون ابن عمار قد تخير ما يخرج مخرج الغزل، أم أن ابن
علي ناوله مجموعة من الأشعار الغزلية؟، وعلى كل فإن هذا القسم حوالي سبعة عشر ما
بين قصيدة قصيرة ومقطوعة وموشح، فلا يمكن بأي حال أن يكون ديوان ابن علي مشتملا
على ما ذكر هنا فقط، ولا حتى ما ذكر في القسم السابق، ذلك أن الجامعي في رحلته قد
ذكر قصائد له، كما أن له قصيدة في فتح وهران الأول، مطلعها:
عُيُونٌ
دَهَتْنِي أَمْ سُيُوفٌ صَوَارِمُ
وَسُمْرٌ رَمَتْنِي أَمْ قُدُودٌ نَوَاعِمُ
ويقول فيها مادحا
الباي محمد بكداش:
تُنَادِي
الرَّعَايَا لَمْ يُجِيبُوا مُلُوكُهَا وَتَصْرُخُ لَوْ لَبَّى لِذَ الصَّوْتِ
رَاحِمُ
وَمَا
أَمْهَلَ الرَّحْمَنُ إِلَّا لِحِكْمَةٍ لَهَا قَلَمُ التَّصْرِيفِ فِي اللَّوْحِ
رَاقِمُ
فَقَيَّضَ
لِلْفَتْحِ الْمُبِينِ مُهَنَّذًا رَقِيقَ الشَّبَا صُلْبَ الصَّفِيحَة صَارِمُ
إِمَامٌ
سَقَى الْكُفَّارَ كَأْسَ مَنِيَّةٍ لَهُمْ شُبَهٌ بِالنَّمْلِ وَالسَّيْفُ
حَاطِمُ
لَقَدْ
صَالَ فِيهِمْ صَوْلَةً هَاشِمِيَّةً فَأَعْتَاهًمْ فِي الْحَرْبِ حَيْرَانُ وَاجِمُ
وَمَزَّقَهُمْ
فِي الْأَرْضِ كُلَّ مُمَزَّقٍ فَرَبْعُهُمُ بَعْدَ الْعِمَارَةِ طَاسِمُ[26]
يقول ابن عمار بعدما تسلم الديوان: «وناولني ديوانا له
بخطه، جاريا على مقتضى البيان وشرطه، فكتبت منه ما نصه، ما أخرجته منه مخرج الغزل،
وحام بلبله على روضة الحسن ونزل:»[27]
قَسَماً
بِصُبْحِ جَبِينِكَ الْوَهَّاجِ مَا أَنْتَ إِلَّا رَاحَتِي وَعِلَاجِي
يَا مَنْ
إِذَا مَا لَاحَ بَارِقُ وَصْلِهِ
يُخْفِيهِ جُنْحٌ مِنْ رَقِيبِكَ دَاجِ
أَتُرَى
يُفَاجِئُنِي السُّرُورُ بِلَيْلَةٍ فِيهَا مُحَيَّاكَ الْبَدِيعُ سِرَاجِي
وله قصيدة أخرى في
نفس الغرض مطلعها:
مَضْنَاكَ
رَقَّ لِحَالِهِ عُذَّالُهُ يُنْبِيكَ عَنْ صِدْقِ الْغَرَامِ خَيَالُهُ
يُمْسِي
وَيُصْبِحُ مِنْ هَوَاكَ مُوَلَّهًا
يَشْكُو الظَّمَا أَبَدًا وَأَنْتَ زُلَالُهُ[28]
ويقول في أخرى[29]:
جُفُونُكَ
فِي الْفُؤَادِ لَهَا كِلَامُ وَفِي الْجِسْمِ النَّحِيفِ لَهَا سِقَامُ
وَصَدْغُكَ
جَنَّتَاهُ تُعَذِّبَانِي وَذَنْبِي أَنَّنِي بِكَ مُسْتَهَامُ
وَلِي
كَبِدٌ تَنَاهَى الْوَجْدُ فِيهَا
وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لَا تُرَامُ
زَهَى
وَرْدُ الْجَمَالِ لَهَا فَحَلَّتْ
بِسَاحَتِهِ وَطَابَ لَهَا الْمُقَامُ
ويقول أيضاً[30]:
إِلَى
كَمْ أُعَانِي فِي الْهَوَى الرُّمْحَ وَالسَّيْفَا بِلَحْظٍ يَقُدُّ الْقَلْبَ أَوْ قَامَةٍ
هَيْفَا
وَمَنْ
لِي بِكِتْمَانِ الصَّبَابَةِ بَعْدَمَا
تَخَطَّتْ فُؤَادِي وَالصَّبَابَةُ لَا تَخْفَى
غَرَسْتُ
بِرَوْضِ الْحُسْنِ حَبَّةَ نَاظِرِي عَلَى
أَنَّنِي أَجْنِي ثِمَارَ الْمُنَى قَطْفَا
ونختم الحديث عن هذا القسم برأي ابن عمار في ديوان ابن
علي الذي ناوله إياه، حيث ذكر بأن هذا الأخير قد جمع فيه من كلامه وكلام غيره،
يقول ابن عمار: «قَدْ أَجَادَ هَذَا الْفَاضِلُ فِي جَمْعِ هَذَا الدِّيوَانِ الْعَجِيبِ،
وَأَتَى فِيهِ بِكُلِّ لَفْظٍ رَائِقٍ وَمَعْنًى غَرِيبٍ، غَيْرَ أَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ
مِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ، وَأَوْدَعَ صُدَفَهُ مِنْ
جَوَاهِرِ الْكَلِمِ الثَّمِينِ وَغَيْرِ الثَّمِينِ، فَكَانَ فِيهِ كَحَاطِبِ لَيْلٍ،
وَجَالِبِ رِجْلٍ وَخَيْلٍ، فَطَالَ بِذَلِكَ وَحَقُّهُ أَنْ يَقْصُرَ، وَهَصَرَ مِنْ
رَوْضِ الشِّعْرِ أَغْصَاناً لَا يَنْبَغِي أَنْ تُهْصَرَ، وَهَا أَنَا أَنْتَخِبُ
مِنْهُ مِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ مَا لَا بَأْسَ بِهِ أَنْ يُرْوَى، وَأَهْصُرَ
مِنْ تِلْكَ الْأَغْصَانِ مَا كَانَ غَضًّا لَا يَذْبُلُ وَلَا يَذْوِي، مُصَدِّراً
بِطَالِعَتِهِ فِيهِ وَخُطْبَتِهِ، لِيَعْلَمَ مُنْتَهَى مَقَامِهِ فِي النَّثْرِ
وَرُتْبَتِهِ»[31]
القسم الثالث: ما جمعه ابن علي
في ديوانه من شعر غيره
وهذا القسم يضم – كما
هو واضح - أشعارا لشعراء جزائريين من القرنين الحادي عشر والثاني عشر (17-18م)،
اختارها ابن علي، وضمنها ديوانه، بمعنى أنه جمع بعض شعر معاصريه ومعاصري والده أو
جده، وهذا ما يؤكد أن شعر هؤلاء وأولئك أكثر من أن يحصره ديوان واحد، كما يدل أيضا
(انطلاقا من فقرة ابن عمار السابقة) أن ما بين أيدينا هو ما اختاره ابن عمار من
اختيارات ابن علي، وهي النقطة التي أشار إليها المحقق، ومنه جاء الديوان بعنوان
(مختارات مجهولة)، وهذه الاختيارات تشتمل على شعر الشعراء المذكورين آنفا
(القوجيلي – المانجلاتي – ابن راس العين – الشباح)، إضافة إلى قصيدتين لجد ابن علي
محمد المهدي، وأخرى لجه الأعلى رمضان بن يوسف.
ولا بأس من الوقوف
على مقدمة ابن علي لهذا المجموع، حيث يقول بعد الحمد والتصلية: «فقد دعاني لجمع
هذا الديوان، ما منيت به من أبناء الزمان، من شماتة إن ألمت مصيبة، وسهام من
نكايتهم مصيبة، فجنحت إلى صرف تلك البلابل، بما يفوق عن احتساء البلابل، واستماع
نغمات البلابل، وهو ما صيغ من ألسن بعض أهل العصر، واعتصر من ينابيع قرائحهم أي
عصر، وربما أضفت إلى ذلك ما سمحت به القريحة الجامدة، والفكرة الخامدة، من خرزات
تحجب بها تلك الجواهر من العين، وجزعات نحتت من سواد العين ...»[32].
بعد ذلك يشرع في إيراد القصائد المختارة من شعر غيره،
وأولها شعر جده الأدنى ثم الاعلى المذكورين سابقا: فمما قاله الجد محمد المهدي
قصيدة يشكو فيها أمرا إلى علماء اسطانبول، منها:
أَرْجُو
الْغِيَاثَ بِنَاصِرِي الْإِسْلَامِ
وَمُؤَيِّدِيهِ بِأَلْسُنِ الْأَقْلَامِ
وَالصَّادِعِينَ
بِآيَةٍ وَبِسُنَّةٍ خَفَقَتْ خُفُوقَ
النَّجْمِ جُنْحَ ظَلَامِ
مِنْ
كُلِّ حَبْرٍ مُتْقِنٍ مُتَفَنِّنٍ
وَمُهَذَّبٍ وَمُؤَدَّبٍ وَإِمَامِ[33]
وهناك أبيات لجده
الأعلى رمضان في طلب العلم:
إِذَا
كَانَ يُؤْذِيكَ حَرُّ الْمَصِيف
وَكَرْبُ الْخَرِيفِ وَبَرْدُ الشِّتَا
وَيُصْبِيكَ
حُسْنُ زَمَانِ الرَّبِيع
فَأَخْذُكَ لِلْعِلْمِ قُلْ لِي مَتَى
فَدَعْ
ذِي الْأَمَانِي وَتَغْرِيرَهَا
فَإِنَّ الْعُلُومَ تَزِينُ الْفَتَى[34]
أما ابن راس العين
فقد ورد له في هذا المجموع تخميس وموشح، فمن الأول قوله:
رِدَاءُ
الْوَفَا قِدْمًا لَبِسْتُ فَزَانَنِي
وَمَا دِنْتُ خِلًّا بِالذِي دَانَنِي
وَلِي
صَاحِبٌ قَدْ كُنْتُ هُو وَكَانَنِي
فَلَمَّا جَفَانِي مَنْ أُحِبُّ وَخَانَنِي
حَفِظْتُ
لَهُ الْوِدَّ الذِي كَانَ ضَيَّعَا[35]
ومن الثاني قوله:
النَّجْحُ
لَاحَتْ لَهُ عَلَامَه وَلِلْفَلَاحِ بَدا عَلَام
وَمَنْ
يَلُمْكَ فَقُلْ عَلَى مَه تَلُومُ
فَالدَّهْرُ لِي غلَام[36]
والملاحظ أن محمدا القوجيلي كان له النصيب الأوفر في هذا
المجموع، ذلك أننا نجد إحدى عشر قصيدة، منها ثلاث في شيخه الأنصاري.[37]
يقول عند افتتاح
قراءته عليه جمع الجوامع للسبكي[38]:
صَفَا
الذّهَبُ الإِبْرِيزَاذُ بالسَّبْكِ
أَجَادَ لَنَا تَخْلِيصَهُ الْعَالِمُ السَّبْكِي
وَأَتْقَنَ
فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ صَوْغَهُ
فَجَاءَتْ أُصُولُ الدِّينِ أَغْلَى مِنَ الْمِسْكِ[39]
إلى أن يقول:
أَلَسْتَ
إِمَامَ الْعَارِفِينَ مُفِيدَهُمْ
أَلَسْتَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَاسِطَةَ السِّلْكِ
فَلِي
فِيكَ يَا بَحْرَ الْعُلُومِ مَحَبَّةٌ
يُعَنِّفُنِي فِيهَا ذَوُوا الْجَهْلِ وَالْعِلْمِ[40]
وسنضرب صفحا عن بعض قصائد القوجيلي، ذلك أنها لا تخرج في
غالبها عما ذكرنا من مدح شيخه الأنصاري، لننتقل إلى قصيدته التي قالها في حضرة
مفتي اسطانبول أبي سعيد طالبا منه ترجيح كفة يوسف باشا على خصومه، وتدخل هذه
القصيدة في الشعر السياسي، وقد كانت زيارة الوفد سنة 1065ه بعدما مر بتونس في نفس
السنة.[41]
لكن يبدو أن يوسف
باشا المذكور لم يتول الباشوية، لا في هذه السنة ولا بعدها بدليل أن ابن المفتي
ذكر أنه تولى ثلاث مرات: الأولى سنة 1044ه، والثانية سنة 1050ه غير أنه وضع في
الحبس لتأخره في دفع علوفات (رواتب) الجند، وكان ذلك على ما يبدو بعد ثلاث سنوات،
ليتولى للمرة الثالثة والأخيرة سنة 1057 لثلاث سنوات[42].
وعلى كل فالقصيدة التي نحن بصددها تلقي ضوءا على الأحوال والوقائع التاريخية في
الفترة المذكورة، كما تبين العلاقات القائمة بين إيالة الجزائر، والسلطة المركزية
في إسطانبول.
وكما قلنا، فإن القصيدة المذكورة من الشعر السياسي، الذي
يغلب عليه المدح، ذلك أن القوجيلي يستهلها بمدح المفتي أبا سعيد إذ يقول[43]:
سَعِدْتَ
فَدُمْ فِي الْعِزِّ واسْتَكْمِلِ الْعُلْيَا
وَدُمْ فِي اقْتِنَاءِ الْمَعْلُومَاتِ مَدَى الْمَحْيَا
وَوَاصِلْ
ذَوِي الْحَاجَاتِ عِنْدَ اضْطِرَارِهِمْ
مُوَاصِلُهُمْ فِي النَّاسِ
أَحْسَنُهُمْ هَدْيَا
وَكُنْ
مَلْجَأ لِلْوَافِدِينَ فَمَنْ يُعِنْ أَخًا فَهْوَ فِي عَوْنِ الذِي
كَوَّنَ الْأَشْيَا
وبعد عدة أبيات في
المدح والشكوى ينتقل الشاعر إلى الغرض المقصود، حيث يقول:
أَتَيْنَا
لِإِنْهَاءِ الذِي قَدْ أَصَابَنَا
إِلَى الْمَلِكِ الْخَنْكَارِ[44] مَنْ عَدْلُهُ أَحْيَا
هُمَامٌ
يَسُوسُ الْعَالَمِينَ بِلَحْظِهِ
وَفَيَّاضُ مَالِ اللهِ يَحْثُو بِهِ حَثْيَا
وَلَا
عَيْبَ لِلْمضْطَرِّ أَنْ جَاءَ شَاكِيًا
إِلَى مَلِكِ الْإسْلَامِ يَطْوِي الْفَضَا طَيَّا
شِكَايَتُنَا
مِمَّا دَهَانَا بِقُطْرِنَا
تَوَالَتْ عَلَيْنَا أَعْصُرٌ
أَوْرَثَتْ غَيَّا
فَسَاءَتْ
بِهِ حَالُ الرَّعِيَّةِ وَانْتَهَى
بِهَا الْأَمْرُ حَتَّى بَعْضُهُمْ يَسْأَمُ الْمَحْيَا[45]
والقصيدة كلها في الشكوى من الحال التي وصلت إليها إيالة
الجزائر، في ظل الصراعات القائمة على السلطة، سواء بين الإنكشارية والباشوات، أو
بين هؤلاء وعامة الشعب، لأنه قلما سلم حاكم من القتل، أو الإبعاد ليتولى بعده آخر،
فالقصيدة –إذن- لها قيمة تاريخية، حيث تلقي الضوء الأوضاع السائدة في مدينة
الجزائر – باعتبارها مركزا للحكم يضم مقر الباشا أو الداي-، لدرجة أن بعض هؤلاء
كان يتولى ثم يعزل، ليتولى ثانيا وربما ثالثا، كما أن للقصيدة قيمة أدبية تتجلى في
مقدرة القوجيلي الشعرية، وذلك واضح في الوحدة العضوية للقصيدة، وحسن تخلصه من
المدح إلى الغرض الذي من أجله، والقصيدة من خمسة وأربعين بيتا.
وسنختم هذا البحث بالحديث عن قصيدة أخرى ذات قيمة
تاريخية، ونقصد بها قصيدة أحمد المانجلاتي، التي بعث بها إلى مفتي إسطانبول، يعرفه
فها بمكانة الإمام إبي عثمان سعيد بن ابراهيم قدورة، حين تعرض للظلم، وتم نفيه إلى
اسطانبول للنظر في الشكوى الموجهة ضده[46]،
وذلك بإشارة من حساده. والقصيدة من واحد وثلاثين بيتا مستهلها:
سِرْبَ
الْقَطَا سِرْ بِالسَّلَامِ وَأَسْعِدِ
وَاْهَضْ إِلَى قَمَرِ السَّعَادَةِ أَسْعَدِ
مُفْتِي
الْبَسِيطَةِ شَمْسهَا وَهِلَالهَا وإِمَامهَا وَهُمَامهَا والْمُقْتَدِي
مَعنى
الزَّمَانِ وَنُكْتَة الْعُلَمَا الذِي مَا
إِنْ تُشَاهِدْ مِثْلَهُ فِي مَشْهَدِ
وَسَلِيلُ
سَادَاتٍ كِرَامٍ رَفَّعَتْ أَقْلَامُهُمْ أَقْدَامَهُمْ بِالسُّؤْدُدِ[47]
وبعد مدح مفتي الحضرة بإسلام بول (اسطنبول)، ينتقل المانجلاتي
إلى الغرض من القصيدة، وهو التعريف بمفتي المالكية "سعيد قدورة"، الذي
تم طرده إلى مقر الحلافة، وكان هذا الطرد تعسفيا، لذا فإن الشاعر يلتمس من أسعد
أفندي إنصافه وإعادته إلى منصبه، وهذا رغم أن المانجلاتي لم يذهب بنفسه مع الوفد،
كما فعل القوجيلي، في قصيدته السابقة، وإنما بعث بها فقط. يقول[48]:
وختاما فإن مدونة
"مختارات مجهولة" تعد نموذجا للشعر العربي في الجزائر العثمانية، لأنها
تضم مجموعة من النماذج التي تدل على تمكن أصحابها من البيان العربي، ومن هؤلاء
الشاعر ابن علي، وصديقه المفتي ابن عمار، اللذين قدما هذه النماذج، التي تعتبر في
خانة المختارات، مما يدل على أن هناك قصائد أخرى لم يتم التطرق لها، كما تعد هذه
الوثيقة من الوثائق الأدبية والتاريخية في الجزائر في القرنين السابع عشر والثامن
عشر.
[1] - بن عمار، أحمد، مختارات مجهولة من الشعر
العربي، تح: أبو القاسم سعد الله، علم المعرفة الجزائر، 2015، ص: 39
[11] - من هؤلاء نذكر: نوريه صاحب لوحات (ولادة في الصحراء)
و(أغنية الناي) و(ياسمين الساحل)، ونال جائزة عن لوحته (خليج الجزائر)، وكذلك شارل
دو فريسن Duferesne، وديبوا Debois صاحب لوحة (امرأة من الهقار)، وغيرهم. يراجع تاريخ
الجزائر الثقافي، ج8/386-387.
[14] - سيف بن ذي يزن بي أصبح بن زيد بن سهل بن عمرو الحميري، كان ملكاً
على اليمن، قيل إنّ اسمه معد يكرب، ولد نحو سنة 110 ق.هـ، في صنعاءء، ونشأ بها،
ذهب إىأنطاكية لطلب مساعهدة الرّو ردّ
الأحباش عن بلده، وكذلك النّعمان بن المنذر، الذي أوصله إلى كسرى م الفرس فساعدوه
وقتل ملحبشة مسروق بن أبرهة، ظلّ ملكاً نحواً من خمس وعشرين سنة. (النّويريّ ص:
15الرّوض الأنف، 1/51).
[19] - الشاعر هنا يستعير
ألفاظ السكر والعربدة، على سبيل المجاز، وإلا فإن ليلتهم تلك كانت للسمر والأنس،
لا للعربدة كما يمكن أن يفهم من السياق
[22] - فيما يخص رد ابن علي على قصيدة ابن ميمون
المذكورة، نجد في كتاب مختارات مجهولة الذي بين أيدينا قصيدتين: الأولى ( أسهم
رماني من لحاظك صائب ...) والثانية: ( يمينا لقد عزت علي المطالب ...)، بينما في
الرحلة: نجد القصيدة الثانية فقط، تليها الأبيات الثلاثة الأخيرة من القصيدة
الأولى، وعلى العموم فكلاهما من نفس وزن وقافية (أمن فتك ذات القلب ...).
[26] - ضمن كتاب، التحفة المرضية في الدولة
البكداشية، (الملحق الخاص بالأشعار التي قيلت في فتح وهران الأول على يد محمد
بكداش، سنة 1119ه/1708م)، ص:290 – 298.
والقصيدة في حوالي 74 بيتا
[35] - ابن عمار، مختارات مجهولة، ص:121.
والتّخميس المذكور لقصيدة جمال الدّين أبي الحسين، يحيى بن عيسى ابن إبراهيم
المعروف بابن مطروح، المولود في أسيوط، بصعيد مصر، يوم الإثنين 8 رجب 592م / 7
يوليو 1196م، وبها نشأ، اتّصل مع صديق له بأمراء الأيّوبيّين "الملك الأشرف،
والملك المسعود، ثمّ بالملك الصّالح، نجم الدّين أيّوب، توفّي في مستهلّ شعبان سنة
650 هـ، /أكتوبر 1252م، ترجمته في سبط ابن الجوزيّ، مرآة الزّمان، 22/422، وأبيات
ابن مطروح التي خمّسها ابن راس العين هي:
ولمّا جفاني من أحبّ وخانني حفظت له الودّ الذي كان ضيّعا
ولو شئت قابلت الصّدود بمثله ولكنّني أبقيت للصّلح موضعا
وقد كان ما قد كان بيني وبينه أكيداً، ولكنّني رعيت وما رعى
سعى بيننا الواشي ففرّق بيننا لك الذّنب يا من خانني، لا لمن سعى
ابن مطروح، الدّيوان، تح: حسين نصّار، دار
الكتب والوثائق القوميّة، القاهرة، 2004، ص: 147 (رقم 168).
[37] - علي ابن عبد الواحد الأنصاري السجلماسي، من
علماء المغرب الذين استوطنوا الجزائر، مشارك في الحياة العلمية بالجزائر في القرن
السابع عشر، رحب به يوسف باشا، ذكر المحبي في خلاصة الأثر 3/240 أثناء ترجمته
لعيسى الثعالبي أن هذ الأخير لازمه مدة تزيد على عشر سنين،كما لازمه علي
المانجلاتي أربع عشرة سنة، ترجمته في: المحبي: خلاصة الأثر: 3/173، ابن زاكور: 47،
تاريخ الجزائر الثقافي:1/370.
[38] - تاج الدين عبد الوهاب ابن علي السبكي، له
مؤلفات في طبقات الشافعية وأصول الدين توفي بدمشق سنة 771ه.
[41] - يذكر المحقق أن القوجيلي كان قاضيا شهيرا،
ذهب في مهمة إلى تونس سنة 1065، كما قاد وفدا في نفس السنة إلى اسطانبول، مساندا
ليوسف باشا.
[44] - الخنكار هو السلطان العثماني، وهو عندئذ
محمد خان الرابع الذي بقي في الحكم أربعين سنة: 1058 – 1099 (1648 – 1687). عن
المحقق. هـ.ص:139
[46] - عن حادثة طرد قدورة من قبل العسكر، ينظر:
تاريخ الجزائر الثقافي: 1/364. وعن تنافس العلماء يراجع ابن المفتي، التقييدات،
قسم العلماء. وفيه حديث عن سعيد قدورة وابنه محمد.

تعليقات
إرسال تعليق